فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة العاديات:
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}
إقسام بخيل الغُزاة التي تعدُو نحو العدوِّ، فتضبح، والضبح: صوت أنفاسِها إذا عدت. وليس المراد بالصوت الصهيل. بل قولها: اح اح، كما قاله ابن عباس. ونصب {ضَبْحًا} إما بفعله المحذوف، أو بالعاديات لإفادته معناه، أو بالحالية.
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} أي: تورى النار بحوافرها. والقدح هو الضرب لإخراج النار، والإيراء يترتب عليه، لأنه إخراج النار وإيقادها؛ فإيراؤها ما يرى من صدم حوافرها للحجارة، وتسمى نار الحباحب. ولما كان مرتبًا على عدوْها عطفهُ بالفاء، وكون المراد به الحرب بعيد. وفي إعرابه الوجوه السابقة.
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} أي: تغير على العدوّ في وقته. يقال: أغار على العدوّ، إذا هجم عليه ليقتله أو يأسره أو يستلب ماله.
قال الإمام: وهو وصف عرض للخيل من الغاية التي أجريت لها، أي: أنها تعدو ويشتد عدوها حتى يخرج الشرر من حوافرها، لتهجم على عدوّ وقت الصباح، وهو وقت المفاجأة لأخذ العدو على غير أهبة.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} أي: فأهجن بذلك الوقت غبارًا من الإثارة، وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه ليرتفع. والنقع: الغبار كما ذكرنا، وورد بمعنى الصياح، فجوّز إرادته هنا بمعنى صياح من هجم عليه، وأوقع به. لا صياح المغير على المحارب، وإن جاز على بُعد فيه، أي: هيجن الصياح بالإغارة على العدوّ، وضمير {بِهِ} للوقت والباء ظرفية. وفيه احتمالات أخر ككونه للعدو أو للإغارة، لتأويلها بالجري. فالباء سببية أو للملابسة. ويجوز كونها ظرفية أيضًا. والضمير للمكان الدال عليه السياق، للعلم بأن الغبار لا يثار إلا من موضع. وهو الذي اختاره ابن جرير.
قال الشهاب: وذكر إثارة الغبار، للإشارة إلى شدة العدو وكثرة الكرّ والفرّ. وتخصيص الصبح لأن الغارة كانت معتادة فيه، أي: لمباغتة العدوّ. والغبار إنما يظهر نهارًا. وأثرن معطوف على ما قبله.
قال الناصر: وحكمة الإتيان بالفعل معطوفًا على الاسم الذي هو العاديات أو ما بعدهُ، لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل. وحكمة مجيء هذا المعطوف فعلًا عن اسم فاعل، تصوير هذه الأفعال في النفس. فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف. وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة. وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي.
وقوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} أي: فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء، ففرقته وشتته. يقال: وسطت القوم بالتخفيف، ووسطته بالتشديد، وتوسطتهُ بمعنى واحد. وفي الضمير الوجوه المتقدمة.
قال الإمام رحمه الله: أقسم تعالى بالخيل متصفة بصفاتها التي ذكرها آتية بالأعمال التي سردها؛ لينوه بشأنها ويعلي من قدرها في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد؛ ليعنوا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل، والإغارة بها؛ ليكون كل واحد منهم مستعدًا في أي: وقت كان، لأن يكون جزءًا من قوة الأمّة إذا اضطرت إلى صدّ عدو، أو بعثها باعث على كسر شوكته. وكان في هذه الآيات القارعات، وفي تخصيص الخيل بالذكر في قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصر ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل، ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس في عقائلها، وأن يكون فن السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقانًا. أفليس أعجب العجب أن ترى أممًا، هذا كتابها، قد أهملت شأن الخيل والفروسية، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزؤ والسخرية؟ وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى.
ثم قال: يقسم الله بالخيل صاحبة تلك الصفات التي رفع ذكرها، ليؤكد الخبر الذي جاء في قوله: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}
أي: كفور يكفر نعمه ولا يشكرها، أي: لا يستعملها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.
قال الهايميّ: أي: لكفور، فيوجب قتله بهذه الخيول وقهره بهذا الغضب.
وعن أبي أمامة: الكنود الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده.
{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي: وإن الإنسان على كنوده لشهيد يشهد على نفسه به، لظهور أثره عليه. فالشهادة مستعارة لظهور آثار كفرانه وعصيانه بلسان حاله.
قال القاشاني: لشهادة عقله ونور فطرته إنه لا يقوم بحقوق نعم الله، ويقصر في جنب الله بكفرانه.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي: وإنه لحب المال والدنيا وإيثارها لقويّ، ولحب تقوى الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس، وإنهُ لحب الخير الموصل إلى الحق شديد منقبض، غير هش منبسط. أو اللام للتعليل، أي: إنه لأجل حب المال بخيل، فلذلك يحتجب به غارزًا رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه، مشغولًا به عن الحق، معرضًا به عن جنابه.
{أَفَلَا يعلم}
أي: أبعدهذا الاحتجاب ومخالفة العقل، ولا يعلم بنور فطرته وقوة عقله {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} أي: بعث وأثير ما في القبور وإخراج موتاها.
{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي: أظهر وأبرز ما في صدورهم ونفوسهم من أسرارهم ونياتهم المكتومة فيها، من خير أو شر.
{إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} أي: عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم، فيجازيهم على حسبها يومئذ. وتقديم الظرف، إما لمكان نظم السجع ورعاية الفواصل، أو للتخصيص لوقوع علمه تعالى كناية عن مجازاته، وهي إنما تكون يومئذ.
قال الرازيّ: وإنما خص أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح، لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب، لما حصلت أفعال الجوارح؛ ولذلك جعلها تعالى الأصل في الذم فقال: {آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] والأصل في المدح فقال: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة العاديات:
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}
يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزا وركضا ووثبا، في خفة وسرعة وانطلاق، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف!
وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة، القادحة للشرر بحوافرها، المغيرة مع الصباح، المثيرة للنقع وهو الغبار، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة، وتثير في صفوفه الذعر والفرار!
يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد!
ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور!
وفي الختام ينتهي النقع المثار، وينتهي الكنود والشح، وتنتهي البعثرة والجمع.. إلى نهايتها جميعا. إلى الله. فتستقر هناك: {إن ربك بهم يومئذ لخبير}... والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة، والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة، كما تناسب جو الجحود والكنود، والأثرة والشح الشديد.. فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك، تثيره الخيل العادية في جريها، الصاخبة بأصواتها، القادحة بحوافرها، المغيرة فجاءة مع الصباح، المثيرة للنقع والغبار، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار... فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار.
{إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يعلم إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)}
{والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا.. إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد...}
يقسم الله سبحانه بخيل المعركة، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع والغبار. غبار المعركة على غير انتظار. وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب!
إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة... والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها؟
وذلك فوق تناسق المشهد مع المشاهد المقسم عليها والمعقب بها كما أسلفنا. أما الذي يقسم الله- سبحانه- عليه، فهو حقيقة في نفس الإنسان، حين يخوى قلبه من دوافع الإيمان. حقيقة ينبهه القرآن إليها، ليجند إرادته لكفاحها مذ كان الله يعلم عمق وشائجها في نفسه، وثقل وقعها في كيانه:
{إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد}..
إن الإنسان ليجحد نعمة ربه، وينكر جزيل فضله. ويتمثل كنوده وجحوده في مظاهر شتى تبدو منه أفعالا وأقوالا، فتقوم عليه مقام الشاهد الذي يقرر هذه الحقيقة. وكأنه يشهد على نفسه بها. أو لعله يشهد على نفسه يوم القيامة بالكنود والجحود: {وإنه على ذلك لشهيد}.. يوم ينطق بالحق على نفسه حيث لا جدال ولا محال!
{وإنه لحب الخير لشديد} فهو شديد الحب لنفسه، ومن ثم يحب الخير. ولكن كما يتمثله مالا وسلطة ومتاعا بأعراض الحياة الدنيا... هذه فطرته. وهذا طبعه. ما لم يخالط الإيمان قلبه. فيغير من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته. ويحيل كنوده وجحوده اعترافا بفضل الله وشكرانا. كما يبدل أثرته وشحه إيثارا ورحمة. ويريه القيم الحقيقية التي تستحق الحرص والتنافس والكد والكدح. وهي قيم أعلى من المال والسلطة والمتاع الحيواني بأعراض الحياة الدنيا..
إن الإنسان- بغير إيمان- حقير صغير. حقير المطامع، صغير الاهتمامات. ومهما كبرت أطماعه. واشتد طموحه، وتعالت أهدافه، فإنه يظل مرتكسا في حمأة الأرض، مقيدا بحدود العمر، سجينا في سجن الذات.. لا يطلقه ولا يرفعه إلا الاتصال بعالم أكبر من الأرض، وأبعد من الحياة الدنيا، وأعظم من الذات.. عالم يصدر عن الله الأزلي، ويعود إلى الله الأبدي، وتتصل فيه الدنيا بالآخرة إلى غير انتهاء..
ومن ثم تجيء اللفتة الأخيرة في السورة لعلاج الكنود والجحود والأثرة والشح، لتحطيم قيد النفس وإطلاقها منه. مع عرض مشهد البعث والحشر في صورة تنسي حب الخير، وتوقظ من غفلة البطر:
{أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور}..
وهو مشهد عنيف مثير. بعثرة لما في القبور. بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير. وتحصيل لأسرار الصدور التي ضنت بها وخبأتها بعيدا عن العيون. تحصيل بهذا اللفظ العنيف القاسي.. فالجو كله عنف وشدة وتعفير!
أفلا يعلم إذا كان هذا؟ ولا يذكر ماذا يعلم؟ لأن علمه بهذا وحده يكفي لهز المشاعر. ثم ليدع النفس تبحث عن الجواب، وترود كل مراد، وتتصور كل ما يمكن أن يصاحب هذه الحركات العنيفة من آثار وعواقب!
ويختم هذه الحركات الثائرة باستقرار ينتهي إليه كل شيء، وكل أمر، وكل مصير:
{إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)}
{إن ربهم بهم يومئذ لخبير..}
فالمرجع إلى ربهم. وإنه لخبير بهم {يومئذ} وبأحوالهم وأسرارهم.. والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال. ولكن لهذه الخبرة {يومئذ} آثار هي التي تثير انتباههم لها في هذا المقام... إنها خبرة وراءها عاقبة. خبرة وراءها حساب وجزاء. وهذا المعنى الضمني هو الذي يلوح به في هذا المقام!
إن السورة مشوار واحد لاهث صاخب ثائر.. حتى ينتهي إلى هذا القرار.. معنى ولفظا وإيقاعا، على طريقة القرآن!. اهـ.

.قال الشنقيطي:

سورة العاديات:
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)}
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه:
{العاديات}: جمع عادية، والعاديات: المسرعات في مسيرها.
فمعنى العاديات: أقسم بالمسرعات في سيرها.
ثم قال: وأكثر العلماء على أن المراد به الخيل، تعدو في الغزو، والقصد تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله.
وقال بعض العلماء: المراد بالعاديات: الإبل تعدو بالحجيج من عرفات إلى مزدلفة ومنىً.
ومعنى قوله: ضبحًا: أنها تضبح ضبحًا، فهو مفعول مطلق، والضبح: صوت أجواف الخيل عند جريها.
وهذا يؤيد القول الأول الذي يقول هي الإبل، ولا يختص الضبح بالخيل.
فالموريات قدحًا: أي الخيل توري النار بحوافرها من الحجارة، إذا سارت ليلًا.
وكذلك الذي قال: العاديات: الإبل.
قال: برفعها الحجارة فيضرب بعضها بعضًا.
ويدل لهذا المعنى قول الشاعر:
تنفي يداها الحصا في كل هاجرة ** نفي الدراهم تنقاد الصياريف

فالمغيرات صبحا، الخيل تغير بالحجاج صبحًا من مزدلفة إلى منى يوم النحر.
فأثرن به نقعًا: أي غبارًا.
قال به. أي: بالصبح أو به. أي بالعدو.
والمفهوم من العاديات: توسطن به جمعًا، أي دخلن في وسط جمع أي خلق كثير من الكفار.
ونظير هذا المعنى قول بشر بن أبي حازم:
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب ** تحت العجاجة في الغبار الأقتم

وعلى القول الثاني الذي يقول: العاديات الإبل تحمل، الحجيج.
فمعنى قوله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}، أي صرن بسبب ذلك العدو، وسط جمع. وهي المزدلفة، وجمع اسم من أسماء المزدلفة.
ويدل لهذا المعنى قول صفية بنت عبد المطلب، عمة النَّبي صلى الله عليه وسلم وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما:
فلا والعاديات مغبرات جمع ** بأيدها إذا سطع الغبار

وهذا الذي ساقه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، قد جمع أقوال جميع المفسرين في هذه الآيات، وقد سقته بحروفه لبيانه للمعنى كاملًا.
ولكن مما قدمه رحمة الله تعالى علينا وعليه أن من أنواع البيان في الأضواء: أنه إذا اختلف علماء التفسير في معنى وفي الآية قرينة. ترد أحد القولين أو تؤيد أحدهما فإنه يشير إليه.
وقد وجد الختلاف المفسرين في هذه الآيات في نقطة أساسية من هذه الآيات مع اتفاقهم في الألفاظ، ومعانيها والأسلوب وتراكيبه.
ونقطة الخلاف هي معنى الجمع الذي توسطن به، أهو المزدلفة لأن من أسمائها جمعًا كما في الحديث: «وقفت ها هنا وجمع كلها موقف» وهذا مروي عن علي رضي الله عنه، في نقاش بينه وبين ابن عباس. ساقه ابن جرير.
أم بالجمع جمع الجيش في القتال على ما تقدم، وهو قول ابن عباس وغيره. حكاه ابن جرير وغيره.
وقد وجدنا قرائن عديدة في الآية تمنع من إرادة المزدلفة بمعنى جمع، وهي كالآتي: اولًا وصف الخيل أو الإبل على حد سواء بالعاديات، حتى حد الضبح وروى الناب بالحوافر وبالحصا، لأنها أوصاف تدل على الجري السريع.
ومعلوم أن الإفاضة عن عرفات ثم من المزدلفة لا تحتمل هذا العدو، وليس هو فيها بمحمود، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي «السكينة السكينة» فلو وجد لما كان موضع تعظيم وتفخيم.
ثانيًا: أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب، كما قاله بشار:
كأن مثار النفع فوق رؤوسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

أي: لشدة الكر والفر.
ثالثًا: قوله تعالى: {فالمغيرات صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 3-5]، جاء مرتبًا بالفاء، وهي تدل على الترتيب والتعقيب.
وقد تقدم المغيرات صبحًا، وبعدها فوسطن به جمعًا.
وجمع هي المزدلفة، وإنما يؤتى إليها ليلًا. فكيف يقرن صبحًا، ويتوطن المزدلفة ليلًا.
وعلى ما حكاه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، أنهم يغيرون صبحًا من المزدلفة إلى منى، تكون تلك الإغارة صبحًا بعد التوسط بجمع، والسياق يؤخرها عن الإغارة ولم يقدمها عليها.
فتبين بذلك أن إرادة الزدلفة غير متأتية في هذا السياق.
ويبقى القول الآخر وهو الأصح. والله تعالى أعلم.
ولو رجعنا إلى نظرية ترابط السور فيها ترشيحًا لهذا المعنى، وهو أنه في السورة السابقة، ذكرت الزلزلة وصدور الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم.
وهنا حث على أفضل الأعمال التي تورث الحياة الأبدية والسعادة الدائمة في صورة مماثلة، وهي عدوهم أشتاتًا في سبيل الله لتحصيل ذاك العمل الذي يحبون رؤيته في ذلك الوقت، وهو نصرة دين الله أو الشهادة في سبيل الله، والعلم عند الله تعالى.
{إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}
هذا الجواب قال القرطبي: الكنود: الكفور الجحود لنعم الله، وهو قول ابن عباس.
وقيل الحسن: يذكر المصائب وينسى النعم، أخذه الشاعر فنظمه:
يا أيها الظالم في فعله ** والظلم مردود على من ظلم

إلى متى أنت وحتى متى ** تشكو المصيبات وتنسى النعم

وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الكنود هو الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده».
وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أبشركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده» خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول.
وروى ابن عباس أيضًا أنه قال: الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور، وبلسان كِنانة: البخيل السيء الملكة..
وقال مقاتل.
وقال الشاعر:
كنود لنعماء الرجال ومن يكن ** كَنودًا لنعماء الرجال يُبعّد

أي كفور.
ثم قيل: هو الذي يكفر اليسير، ولا يشكر الكثير.
وقيل: الجاحد للحق.
وقيل: سميت كندة كندة، لأنها جحدت أباها.
وقلا إبراهيم بن هرمة الشاعر:
دع البخلاء إن شمخُوا وصَدوا ** ذكري بخل غانيةٍ كنود

في نقول كثيرة وشواهد.
ومنها: الكنود الذي ينفق نعم الله في معصية الله.
وعن ذي النون: الهلوع والكنود: هو الذي إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا.
وقيل: الحسود الحقود.
ثم قال القرطبي رحمه الله في آخر البحث:
قلت: هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود.
وقد فسر النَّبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة، فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لأحد معه مقال. اهـ.
وهكذا كما قال: إن صح الأثر فلا قول لأحد، ولكن كل هذه الصفات من باب اختلاف التنوع، لأنها داخلة ضمن معنى الجحود للحق أو للنعم.
وقد استدل ذو النون المصري بالآية الكريمة، وهي مفسرة للكنود على المعاني المتقدمة بأنه هو الهلوع {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعًا} [المعارج: 20-21].
ومثلها قوله: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقول ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقول ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].
وقد عقب عليه هناك بمثل ما عقب عليه هنا.
ومثلها قوله: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلًا لَّمًّا وَتُحِبُّونَ المال حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 17-20].
وهنا عقب عليه بقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، والله تعالى أعلم.
وقوله: إن الإنسان عام في كل إنسان، ومعلوم أن بعض الإنسان ليس كذلك، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} [الليل: 5-6]، مما يدل على أنه من العام المخصوص.
وأن هذه الصفات من طبيعة الإنسان إلا ما هذبه الشرع، كما قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} [النساء: 128].
وقوله: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [الحشر: 9].
ونص الشيخ في إملائه أن المراد به الكافر.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}.
اختلف في مرجع الضمير في: وإنه، فقيل: راجع للإنسان، ورجحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب، مستدلًا بقوله تعالى بعده {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8].
وقيل: راجع إلى رب الإنسان.
واختار هذا القرطبي وقدمه.
وجميع المفسرين يذكرون الخلاف، وقد عرفت الراجح منها، وعليه، فعلى أنه راجع لرب الإنسان فلا إشكال في هذه الآية، وعلى أنه راجع للإنسان ففيه إشكال أورده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الإضطراب وأجاب عليه.
وهو أنه جاءت نصوص تدل على أنه ينكر ذلك، وأنه كان يجب أن يحسن صنعًا، ونحو ذلك.
ومن الجواب عليه: أن شهادته بلسان الحال.
وقد أورد بعض المفسرين شهادتهم بلسان المقال في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، إلا أن هذه الشهادة بالكفر هي الشرك. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ}.
الخير عام، كما تقدم في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].
ولكنه هنا خاص بالمال، فهو من العام الذي أريد به لخاص من قصر العام على بعض أفراده، لأن المال فرد من أفراد الخير، كقوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، أي مالًا، لأن عمل الخير يصحبه معه ولا يتركه.
وفي معنى هذا وجهان: الأول وإنه لحب الخير أي بسبب حبه الخير لشديد بخيل، شديد البخل.
كما قيل:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد

أي شديد البخل على هذه الرواية من هذا البيت.
والوجه الثاني: وإنه لشديد حب المال حبًا جمًا سيحمله حبه على البخل.
وفي هذا النص مذمة حب المال وهو جبلة في الإنسان، إلا من هذبه الإسلام، إلا أن الذم ينصب على شدة الحب التي تحمل صاحبها على ضياع الحقوق أو تعدي الحدود.
وهذه الآية وما قبلها نازلة في الكفار كما قدمنا كلام الشيخ رحمة اله تعلاى علينا وعليه في إملائه.
{أَفَلَا يعلم إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)}
البعثرة: الانتثار.
وقال الزمخشري: إن هذه الكلمة مأخوذة من أصلين: البعث والنثر. فالبعث: خروجهم أحياء. والنثر: الانتشار كنثر الحب، فهي تدل على بعثهم منتشرين.
وقد نص تعالى على هذا المعنى في قوله: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4]، أي بعثر من فيها.
وقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعًا} [المعارج: 43].
وقوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7].
وقوله: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 4].
{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)}
قيل: حصل أي أُبرز.
قاله ابن عباس.
وقيل: ميز الخير من الشر.
والحاصل من كل شيء ما بقي.
قال لبيد:
وكل امرئ يومًا سيعلم سعيه ** إذا حصلت عند الإله الحصائل

والمراج بما في الصدور الأعمال، وهذا كقوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} [الطارق: 9].
ونص على الصدور هنا، مع أن المراد القلوب، لأنها هي مناط العمل ومعقد النية.
والعقيدة وصحة الأعمال كلها مدارها على النية، كما في حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وحديث: «ألا أن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله» الحديث.
وقال الفخر الرازي: خصص القلب بالذكر، لأنه محل لأصول الأعمال.
ولذا ذكره في معرض الذم، فإنه {آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، وفي معرض المدح {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
ويشهد لما قاله قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89].
وقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 74].
وقال: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} [الزمر: 23].
وقوله: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28]، ونحو ذلك.
ومما يدل على ان المراد بالصدور ما فيها هو القلب.
قوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46].
وقال الفخ الرازي: نص على الصدور ليشمل الخير والشر، لأن القلب محل الإيمان.
والصدر هو محل الوسوسة لقوله تعالى: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} [الناس: 5].
وهذا وإن كان وجيهًا، لأن محل الوسوسة أيضًا هو القلب، فيرجع إلى المعنى الأول والله أعلم.
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
ذكر الظرف هنا يشعر بقصر الوصف عليه مع أنه سبحانه خبير بهم في كل وقت في ذلك اليوم، وقبل ذلك اليوم، ولكنه في ذلك اليوم يظهر ما كان خفيًا، فهو بحانه يعلم السر وأخفى، وهو سبحانه لا يخفى عليه خافية.
ولكن ذكر الظرف هنا للتحذير مع الوصف بخبير، أخص من عليم، كما في قوله: {قال نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} [التحريم: 3]. اهـ.